غزة تحت القصف وبلجيكا تحت الاختبار.. المجتمع المدني يطالب بأن يكون للإنسانية صوت

غزة تحت القصف وبلجيكا تحت الاختبار.. المجتمع المدني يطالب بأن يكون للإنسانية صوت
مظاهرات في بلجيكا رافضة للحرب على غزة

أمام صور الأطفال الجائعين، والمباني المنهارة، والمجازر الموثقة في غزة بالكاميرات، يرفض الشارع البلجيكي الاكتفاء ببيانات دبلوماسية، ففي لحظةٍ تُختبر فيها إنسانية العالم، أطلقت عشرات المنظمات الحقوقية والنقابات العمالية والمؤسسات الثقافية البلجيكية نداءً استثنائياً موجهاً مباشرةً إلى قلب السلطة فحواها: "الكلام المجوف أسوأ من الصمت المتواطئ. تحرّكوا اليوم!".. إنها رسالة صريحة وحادة تعكس عمق الألم الذي يعتصر وجدان الشارع البلجيكي أمام ما يشهده قطاع غزة من دمار وموت، وسط صمت رسمي تعتبره هذه الأصوات نوعًا من الشراكة غير المباشرة في المأساة.

البيان، الذي وقع عليه المئات من الشخصيات الأكاديمية والفنية والدينية والمواطنين العاديين، جاء محملاً بالغضب وخيبة الأمل من غياب إجراءات ملموسة من الحكومة البلجيكية تجاه ما تصفه المنظمات الحقوقية بأنه إبادة جماعية تُبثّ على الهواء مباشرة وفق موقع "belganews".

أصوات تتعالى ضد العجز السياسي

منظمات كبرى مثل أوكسفام، غرينبيس، رابطة حقوق الإنسان، اتحاد اليهود التقدميين في بلجيكا، التحالف اليهودي المناهض للصهيونية، والنقابات العمالية الاشتراكية والمسيحية وجمعية بيتنا الفلسطينية، وقفت صفًا واحدًا في مواجهة ما تعده عجزًا سياسيًا متعمدًا من الحكومة.

يرى هؤلاء أن السلطة في بروكسل، رغم بياناتها وتصريحاتها، لم تتجاوز مرحلة الإدانة اللفظية، في وقتٍ لم يعد فيه الحياد خيارًا مقبولًا أخلاقيًا أو سياسيًا، خاصةً أن محكمة العدل الدولية وصفت في قراراتها السابقة تصرفات الجيش الإسرائيلي في غزة بأنها قد ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية.

مطالب جريئة تهز ثوابت السياسة الخارجية

في قلب البيان، طُرحت مطالب واضحة وجريئة منها الاعتراف الفوري بدولة فلسطين، حظر إنتاج وتصدير الأدوات التي يمكن أن تُستخدم في النزاعات (وبالأخص تلك الموجهة لإسرائيل)، طرد السفير الإسرائيلي من بروكسل، وفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل بما في ذلك استبعادها من منصة الدفع العالمية "سويفت".

ورغم أن هذه المقترحات قد تبدو للبعض طموحة أو حتى مستحيلة سياسيًا، إلا أن أصحاب البيان يرونها إجراءات أخلاقية ضرورية في مواجهة الإبادة الجماعية المتلفزة التي تؤكدها –بحسب البيان– الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة وتقارير المنظمات الحقوقية الدولية.

حكومة بلجيكا الائتلافية، المكونة من خمسة أحزاب، وجدت نفسها أمام امتحان صعب، فقد أبدت ثلاثة من هذه الأحزاب أبدت انفتاحًا نسبيًا على دراسة بعض المقترحات، بينما عارضها بشدة الحزب الليبرالي الناطق بالفرنسية (MR) والقوميون الفلمنكيون (N-VA)، وكلاهما شريك في الائتلاف.

صوت الشارع الثقافي والأكاديمي

الرسالة التي وُجهت للحكومة البلجيكية لم تأتِ من مؤسسات حقوقية فقط، بل وقع عليها كتّاب بارزون مثل دليلة هيرمانز وتوم لانوي، ومدير معهد هانا أرندت كريستوف بوش، وأكاديميون من جامعة ليبرتي، إضافةً إلى سياسيين من حزب الخضر والمفوضة السابقة لحقوق الطفل.

هذا التنوع يعكس حالة إجماع مجتمعي نادرة، تؤكد أن المسألة تجاوزت حدود السياسة لتصبح مسألة إنسانية تمس الضمير البلجيكي نفسه.

مأساة غزة 

في خلفية هذه الدعوات تأتي أرقام مفجعة، من قطاع غزة وفق بيان صادر عن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية في نهاية يوليو 2025،أستشهد منذ نهاية مايو نحو 1400 فلسطيني في قطاع غزة، معظمهم برصاص الجيش الإسرائيلي أثناء انتظارهم للمساعدات الإنسانية.

وبحسب البيان الأممي، منذ 27 مايو، لقي ما لا يقل عن 1373 فلسطينيًا مصرعهم بينما كانوا يبحثون عن الطعام، معظم هذه الجرائم ارتكبها الجيش الإسرائيلي، وهذه الأرقام لا تُظهر فقط شدة القصف أو حجم الدمار، بل تسلّط الضوء على أزمة أعمق هي المجاعة كونها سلاح حرب، وتجويع المدنيين كونه أسلوب حصار جماعي.

صراع يتجاوز الجغرافيا

القضية الفلسطينية تشغل الرأي العام البلجيكي منذ عقود، لكن المشهد الحالي في غزة مختلف في حدته واتساع رقعته، فالتقارير الحقوقية من منظمات كهيومن رايتس ووتش والعفو الدولية تؤكد أن ما يجري في القطاع قد يرقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بسبب استهداف المدنيين بشكل ممنهج، وتدمير البنى التحتية الحيوية ومنع دخول الغذاء والدواء.

محكمة العدل الدولية كانت قد أصدرت في مطلع العام أوامر لإسرائيل باتخاذ إجراءات فورية لحماية المدنيين الفلسطينيين، في قضية رفعتها جنوب إفريقيا متهمةً إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة جماعية. هذه الخلفية القانونية منحت الناشطين في بلجيكا أرضية أقوى لمطالبة حكومتهم بخطوات ملموسة.

أوروبا تتحرك وبروكسل مترددة

الناشطون البلجيكيون أشاروا في بيانهم إلى أن دولًا أوروبية مثل إسبانيا، أيرلندا، وهولندا اتخذت خطوات متقدمة، أبرزها الاعتراف بدولة فلسطين، بينما ظلت بلجيكا في موقع المتفرج رغم شعاراتها الإنسانية.

ويقولون صراحةً: غياب الشجاعة السياسية ليس خيارًا، بل خيارهم"، هذا النقد يُعبر عن خيبة أمل حقيقية في بلد يُقدّم نفسه دائمًا كمدافع عن حقوق الإنسان في المحافل الدولية.

الخوف من أزمة حكومية مقابل واجب إنساني

حتى مع اعتراف بعض أطراف الحكومة بضرورة التحرك، هناك خشية واضحة من أن تؤدي قرارات جريئة إلى أزمة سياسية داخلية، قد تسقط الائتلاف الحاكم، لكن المجتمع المدني يرد على هذا الخوف برسالة واضحة: حتى لو أدى ذلك إلى أزمة حكومية، فالواجب الأخلاقي أهم من الحسابات السياسية.

تصريحات أحد السياسيين في بلجيكا تعكس جوهر القضية، فدولة صغيرة مثل بلجيكا قد لا تغير الوضع بمفردها، لكنها تستطيع أن تكون شرارةً تُلهم تحركًا أوروبيًا أوسع، وهذه القناعة تجد صدى لدى منظمات المجتمع المدني، التي تؤمن بأن بلجيكا بمواقفها الأخلاقية قد تُعيد رسم خريطة المواقف الأوروبية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية